” موت ثقافي آخر! ” للكاتبة بثينة محمد الجناحي

حدثتني زميلتي عن تعزية من نوع آخر، تعزية لخسارة شخص لمشروعه الثقافي. استسلم صاحب المشروع وقرر أن يبتعد عن كل السنوات التي تمسك فيها بالمشروع منتظرأ أن يرى النور يوماً ما.

استوقفت زميلتي لوهلة، وكأنني أهنئ من ظل صامداً حتى اليوم على الرغم من كثرة الصبر والمحاولات لتخطي صعوبات قد تطول لحقب وفترات زمنية مختلفة وظروف متفاوتة خارج الإرادة، ولربما تتفاجأ بظرف آخر يتطلب منك صبراً إضافيا على الصبر السابق.

لذلك، شعرت بأن الثقافة تعتبر استثنائية بالتأكيد وتتحلى بالصبر لمواجهة ومصارعة السوق التجاري. فعلى الرغم من براعة المجال الثقافي، إلا إنه لا يزال محكوماً ومتسماً بكونه غير ضروري ومهمشاً مقابل ما هو أكثر استهلاكاً وأفضل قبولاً للتمويل.

وحال هذا الزميل ليس إلا مثالاً لعدة حالات خاضت نفس التجارب، وعاشت لحظات الانكسار والتفكير في الانسحاب معظم الأوقات، إلى أن يحملهم الصبر إلى فترة زمنية أخرى، وفي انتظار تلك الفترة التي من المفترض أن تكون انتعاشاً واستشراقاً لحاجة ثقافية أوسع تمنح الوساطة الخدمية المتنوعة والانتاج الابداعي الجديد وفضاءات متنوعة بين الشعر والكتب والمسرح والسينما والكلمة والكتب، وتستمر في عطائها بثراء مبدعيها.

فهل يكمن الخلل في فترة التحمل، أم في الطاقة التي هدرت على مدى التحمل؟

كيف لا يغامر صاحب الذائقة ليساهم في خلق فضاءات ثقافية جديدة ومتجددة قادرة أن تكون الحلقة الجمالية التي تجد من خلالها القيمة الاجتماعية والانثربوبولجية والنفسية وحتى الفلسفية.

كيف لا تستهوي هذا الفضاء بما فيه من محطات ابداعية تعبيرية تسمح لك أن ترى من خلالها الحاضر والماضي والمستقبل بمناظير متعددة وأفق شاسعة تتطور وتتجدد بحسب زمانها ومكانها.

من وجهة نظر المجتمع الفرنسي تظل الثقافة على أنها الاستثناء الثقافي، فهي لا تخضع من وجهة نظرهم إلى شروط السوق التجاري.

وحتى لو نتفق مع مبدأ المجتمع الفرنسي، ولكن يبدو أن العزاء على الثقافة ما زال مسيطراً عليه القيود التجارية وبضغط كبير على قرارات الانسحاب في النهاية.

ونظرا لمثل هذه القيود التي تفرض على المشاريع الثقافية والابداعية بشكل عام، تتحول الثقافة من كونها قيمة غير جمالية ولا تقتصر على المكنون والتنفيس وأسس التعبير، إنما تضطر لأن تقتصر على قيمتها التجارية كي تتمكن من الاستمرار في ظل ما تواجهه اقتصادياً من صعوبات وصراع من أجل البقاء لفترات أطول!.

لا يحزنني في هذه الحال مسألة الانسحاب، ولكن أحزن على الظروف التي تجعل من قرار الانسجاب حتميا.

وقد تكون تلك الظروف مجرد مسائل إدارية وبيروقراطية لا تتطلب إلا التواصل الفعال والجاد، بل وفهم الحاجة للمشروع المتجدد كحلقة وصل، بالإضافة إلى وضع المشاريع الخاصة من ضمن الخطط الاستراتيجية لتمكين وتشغيل المشاريع الثقافية المتنوعة.

وهنا يكمن الصراع، عندما تجد نفسك تسعى وتطالب وتتواصل، بينما لا تجد الرد الواضح أو الدعم اللازم للاستمرار أو حتى للتقدم بوضوح في سير العمل والتعاون.

كما تظن أنك مؤهل ثقافيا في تقديم الخدمات من خلال القطاع الخاص، بينما يجد الآخر فيك منافسا، في حين إنك لا تزال مشروعا ينتظر أن يرى النور بين كل الظروف التي تمر فيها مراعياً حتى لمواسم قد تتعارض معك في المشاريع الثقافية المقترحة، حيث تكون الثقافة حينها مهمشة وغير ضرورية مقارنة بالمشاريع الكبرى والتي يطغى عليها طابع الترويج القوي والتمويل المتعدد.

فتظل أنت تصارع وحدك وتقابل لحظات الانتظار بالاستسلام وتواصل التذكير بالدعم إلى حين الرد إما بالرفض أو القبول، أو لا هذا ولا ذاك.

وتستمر مسألة المحاولات، ويظل الافتقار إلى التمويل في القطاع الثقافي الخاص كجانب يؤثر ليس فقط على الاستمرار وانتظار العوائد الربحية للتقدم والتطور، إنما أيضاً على تغيير نمط الثقافة وسلبها من قيمها الجمالية إلى تسويقية تجارية كي تتمكن من مواكبة السوق على الرغم من شح الطلبات وقلة الدعم.

وحتى للمثقف نفسه، قد يشعر في الأخير بأنه حكر على الأساليب التقليدية والتواصل النمطي الذي لن يخلق بعداً تنافسياً على مستوى مشروع ثقافي تمويلي.

تظل تصارع وحدك بينما يحسب لك العداد قرب موعد الرحيل!

عزائي لكل من ذرف دمعة من بعد خسارة مشروع ثقافي لا يزال صغيراً في القطاع الخاص ولم يتحمل كبرياء الأقوياء عليه!.

مقال للكاتبة

بثينة محمد الجناحي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
الوطن الخليجية